NAVIGATION
56. Page
﴿الم﴾
اعلم أن ههنا "مباحث أربعة":
المبحث الأول:
أن الإعجاز قد تنفّس من أُفق ﴿الم﴾ لأن الإعجاز نورٌ يتجلى من امتزاج لمعات لطائف البلاغة، وفي هذا المبحث لطائفُ كلٌّ منها وإن دقَّ، لكن الكل فجرٌ صادق.
منها: أن ﴿الم﴾ مع سائر أخواتها في أوائل السور تنصّف كل الحروف الهجائية التي هي عناصر كل الكلمات. فتأمل!
ومنها: أن النصف المأخوذ أكثر استعمالا من المتروك.
ومنها: أن القرآن كرر من المأخوذ ما هو أَيْسَرُ على الألسنة كالألف واللام.
ومنها: أنه ذكر المقطّعات في رأس تسع وعشرين سورة عدة الحروف الهجائية.
57. Page
ومنها: أن النصف المأخوذ ينصّف كل أزواج أجناس طبائع الحروف([1]) من المهموسة([2]) والمجهورة([3]) والشديدة([4]) والرخوة([5]) والمستعلية([6])
[1] فذكر من (المهموسة) وهي ما يضعف الاعتماد على مخرجه، ويجمعها (ستشحثك خصفه) نصفها وهي الحاء والهاء والصاد والسين والكاف. ومن البواقي (المجهورة) نصفها يجمعه (لن يقطع أمر) ومن (الشديدة) الثمانية المجموعة في (أجدت طبقك) أربعة يجمعها. ومن البواقي (الرخوة) عشرة يجمعها (حمس على نصره) ومن المطبقة التي هي الصاد والضاد والطاء والظاء نصفها. ومن البواقي (المنفتحة) نصفها. ومن (القلقلة) وهي حروف تضطرب عند خروجها ويجمعها (قد طبج) نصفها الأقل لقلتها. ومن (اللينتين) الياء لأنها أقل ثقلا، ومن (المستعلية) وهي التي يتصعد الصوت بها في الحنك الاعلى وهي سبعة: القاف والصاد والطاء والخاء والغين والضاد والظاء نصفها الأقل، ومن البواقي (المنخفضة) نصفها... انظر الكشاف 1/71 وتفسير البيضاوي 1/87، والنسفي 1/10 وتفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان 1/133 والإتقان في علوم القرآن 3/27 .
[2] هي الأصوات التي يجري معها النفس عند النطق بها لضعفها وضعف الاعتماد عليها عند الخروج بها ويجمعها قولهم (سكت فحثه شخص) وهى عند المعاصرين :(الأصوات التى لا يهتز عند النطق بها الوتران الصوتيان فى النتوء الحنجرى) انظر:الدراسات الصوتية عند علماء العربية62
[3] هي الأصوات التي منع النفس أن يجري معها عند النطق بها لقوتها وقوة الاعتماد عليها في موضع خروجها وهي بقية الحروف غير المهموسة. وهى عند المعاصرين: (الأصوات التى يهتز عند النطق بها الوتران الصوتيان بحيث يسمع لها رنين فى تجاويف الرأس) المرجع السابق فى الموضع نفسه.
[4] هي الحروف التي اشتد لزومها لموضعها وقويت فيه فمنعت الصوت أن يجري معها عند التلفظ بها يجمعها قولهم (أجدتك قطب) وهى عند المعاصرين: (الأصوات التى يحدث معها اعتراض تام على هواء الزفير القادم من الرئتين) انظر: دراسات فى علم الأصوات76.
[5] هي ما ضعف الاعتماد عليه عند النطق به فجرى معه الصوت وهي بقية الحروف غير الشديدة وغير المجموعة في قولهم (لم يروعنا) وهى عند المعاصرين: ( الأصوات التى يحدث معها اعتراض ناقص) المرجع السابق
[6] هي الأصوات التي يعلو الصوت عند النطق بها إلى الحنك وهي حروف الطاء والظاء والصاد والضاد والغين والخاء والقاف.
58. Page
والمنخفضة([1]) والمنفتحة([2]) وغيرها، وأما الأوتار فمن الثقيل القليل كالقلقلة([3])؛ ومن الخفيف الكثير كالذلاّقة([4]).
[1] هي التي ينخفض عند نطقها اللسان إلى قاع الفم وهي غير الحروف المستعلية .
[2] هي الحروف التي لا ينطبق اللسان إلى الحنك عند النطق بها فلا ينحصر الهواء بينهما وهي كل الحروف ما عد الطاء والظاء والصاد والضاد.
[3] هي اضطراب الحرف عند خروجه فيظهر معه صوت يشبه النبرة عند الوقوف عليه ويجمع حروفها قولهم (قطب جد)
[4] الذلاقة وهي سهولة النطق بالحرف وحروفها هي التي مخرجها من طرف اللسان وما يليه من الشفتين وحروفها ستة هي الفاء والباء والميم والراء واللام والنون .
59. Page
ومنها: أن النصف المأخوذ من طبائعها ألطفُ سجيةً.
ومنها: أن القرآن اختار طريقًا في المقطّعات من بين أربعة وخمسمائة احتمال لا يمكن تنصيف طبائع الحروف إلا بتلك الطريق؛ لأن التقسيمات الكثيرة متداخلةٌ ومشتبكة ومتفاوتة، ففي تنصيف كلٍّ غرابةٌ عجيبة.
فمن لم يجتن نور الإعجاز من مزج تلك اللمعات فلا يلومنّ إلاّ ذوقه.
المبحث الثاني:
اعلم أن ﴿الـم﴾ كقرع العصا([1]) يوقظ السامعَ ويهزُّ عِطفه بأنه - بغرابته - طليعةُ غريبٍ وعجيبٍ.
وفي هذا المبحث أيضًا لطائف:
[1] أي: حروف تنبيه، ومفاد هذا الرأى أنها ذكرت احتجاجًا على الكفار وتنبيبهًا على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف وأنتم قادرون عليها وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر، وهو رأي الفراء كما في القرطبي ا/155 والمبرد كما في مفاتيح الغيب 2/7، وقطرب كما في معاني الزجاج 1/55، ورجحه الزمخشرى كما فى الكشاف1/27 وابن تيمية والمزي كما في ابن كثير1/42 .
60. Page
منها: أن التهجِّي وتقطيع الحروف في الاسم إشارةٌ إلى جنس ما يتولد منه المسمى([1]).
ومنها: أن التقطيع إشارةٌ إلى أن المسمى واحد اعتباريّ لا مركب مزجي([2]).
ومنها: أن التهجِّي بالتقطيع تَلميحٌ إلى إراءة مادة الصنعة؛ كإلقاء القلم والقرطاس لمن يعارضك في الكتابة، كأن القرآن يقول: "أيها المعاندون المدّعون! إنكم أمراء الكلام، هذه المادة التي بين أيديكم هي التي أصنع فيها ما أصنع".
ومنها: أن التقطيع المُرْمِز إلى الإهمال عن المعنى يشير إلى قطع حجتهم بـ "إنّا لا نعرف الحقائق والقصص والأحكام حتى نقابلك"، فكأن القرآن يقول: "لا أطلب منكم إلاّ نظم البلاغة، فجيئوا به مفتريات".
ومنها: أن التعبير عن الحروف بأسمائها من رسوم أهل القراءة والكتابة([3])، ومن يسمعون منه الكلام أمّيّ مع محيطه، فنظرًا إلى السجية -مع أن أول ما يتلقاهم خلاف المنتظر- يرمز إلى: "أن هذا الكلام لا يتولد منه، بل يُلقى إليه".
[1] أي القرآن.
[2] أي أن كل كلمة في القرآن يصدق عليها كلمة قرآن وإن لم تُرَكَّبْ مع غيرها تركيبًا مزجيا.
[3] كالتعبير عن الحروف (أ، ل) بألف لام، فهذا التعبير بأسماء الحروف هو من أصول أهل القراءة والكتابة (ت: 34)
61. Page
ومنها: أن التهجِّي أساس القراءة ومبدؤها([1])، فيومئ إلى أن القرآن مُؤَسِّسٌ لطريق خاص، ومعلم لأمّيين.
ومن لم ير نقشًا عاليًا من انتساج هذه الخيوط -وإن دقّ البعض- فهو دخيل في صنعة البلاغة فليقلِّد فتاوى أهلها.
المبحث الثالث:
إن ﴿الـم﴾ إشارةٌ إلى نهاية الإيجاز، الذي هو ثاني أساسَي الإعجاز.
وفيه لطائف:
منها: أن ﴿الـم﴾ يرمز ويشير ويومئ ويُلَوِّح ويلَمِّح بالقياس التمثيلي المتسلسل إلى: "أن هذا كلام الله الأزلي نزل به جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام"؛ لأنه كما أن الأحكام المفصلة في مجموع القرآن قد ترتسم في سورةٍ طويلة إجمالا،
وقد تتمثل سورةٌ طويلة في قصيرةٍ إشارةً،
وقد تندرج سورةٌ قصيرة في آيةٍ رمزًا،
وقد تندمج آيةٌ في كلامٍ واحد تلويحًا،
وقد يتداخل كلامٌ في كلمةٍ تلميحًا،
[1] أي: إن التهجي يخص المبتدئين بالقراءة (ت: 34)
62. Page
وقد تتراءى تلك الكلمة الجامعة في حروف مقطعة، كـ "سين، لام، ميم"، كالقرآن في البقرة، والبقرة في الفاتحة، والفاتحة في ﴿بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيم﴾ و﴿بسْمِ الله الرَّحْمَن الرَّحِيْم﴾ في البسملة المنحوتة([1])؛ كذلك يجوز ذلك في ﴿الـم﴾ أيضًا.
فبالاستناد إلى هذا القياس التمثيلي المتسلسل، وبإشارة ﴿ذَلِكَ الْكِتَاب﴾ يتجلى من ﴿الـم﴾: "هذا كلام الله الأزلي نزل به جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام".
ومنها: أن الحروف المقطعة كالشفرة الإلهية أبرقها إلى رسوله الذي عنده مفتاحها، ولم تتطاول يدُ فكر البشر إليه بعد.
ومنها: أن ﴿الـم﴾ إشارةٌ إلى شدة ذكاوة المنزَل عليه رمزًا إلى أن الرمز له كالتصريح([2]).
ومنها: أن التقطيع إشارةٌ إلى أن قيمة الحروف ليست في معانيها فقط، بل بينها مناسبات فطرية كمناسبة الأعداد([3])، كشَفَها علم أسرار الحروف([4]).
[1] يقصد أن البسملة كلمةٌ واحدة تعبر عن قولنا بسم الله الرحمن الرحيم، والنحت في اللغة هو؛ أن نعبر عن جملةٍ بكلمة واحدة تؤخذ حروفها من كلمات تلك الجملة. وهو من ضروب الاشتقاق في اللغة، انظر: الاشتقاق لابن دريد 159.
[2] أي لكمال ذكائه يفهم ما هو رمز وإيماء وأمر خفي، كالصريح. (ت: 35)
[3] لقد أظهرت "رسائل النور" هذه اللمعة الإعجازية بعد أربعين سنة حتى للعميان. (خ)
[4] علم أسرار الحروف: علم يبحث عن خواص الحروف إفرادًا وتركيبا، وموضوعه الحروف الهجائية ومادته الأوفاق والتراكيب، وصورته تقسيمها كما وكيفا، وتأليف الأقسام والعزائم، وما نتج منها، وغايته التصرف على وجه يحصل به المطلوب إيقاعا وانتزاعًا، ومرتبته بعد الروحانيات والفلك والنجامة..."، انظر: كشف الظنون 1/560.
63. Page
ومنها: أن ﴿الـم﴾ خاصةً إشارةٌ بالتقطيع إلى المخارج الثلاثة من الحلق([1]) والوسط([2]) والشفة، وترمز تلك الإشارة إلى إجبار الذهن للدقة، وشَقِّ حجاب الأُلفة؛ ليلجأ إلى مطالعة عجائب ألوان نقش خلقة الحروف.
فيا من صبغ يده بصنعة البلاغة!
ركِّب قطعاتِ هذه اللطائف وانظرها واحدة، واستمع، لتقرأ عليك: "هذا كَلاَمُ الله"!
المبحث الرابع:
إن ﴿الـم﴾ مع أخواتها لما برزت بتلك الصورة كانت كأنها تنادي: "نحن الأئمة؛ لا نقلد أحدًا وما اتبعنا إمامًا، وأسلوبنا بديع، وطرزنا غريب".
وفيه لطائف:
منها: أن من دَيْدَنِ الخطباء والفصحاء التأَسِّيَ بمثال، والنسجَ على منوال، والتمشيَ في طريق مسلوكة، مع أنها لم يطمثهن قبله([3]) إنسٌ ولا جان.
[1] الألف ليس من الحلق بل من الجوف، لكنه عدّها من الحلق لأننا نبدأ نطقها بالهمزة، والهمزة عند القدماء من أقصى الحلق.
[2] يقصد بالوسط ما بين الحلق والشفتين.
[3] "الهاء" هنا راجعة إلى القرآن الكريم.